لا هو حوار ولا هو وطني

2 يناير 2014
حمدي قنديل
حمدي قنديل

الحوار الذى دعا إليه الرئيس باسم «الحوار الوطنى» لا هو حوار ولا هو وطنى.. هو مجرد خدعة «علشان الصورة تطلع حلوة»، أو علشان «الشورى» تطلع حلوة كما قال كاتبنا الراحل جلال عامر.. كل هم الرئيس الآن هو الصورة، صورته وهو يجلس مع المعارضين.. ظنه أن هذه الصورة ستخفف الاحتقان فى الداخل وتمهد عندئذ للاستقرار، وأنها ستخفف الضغوط القادمة من الخارج تطالبه بانتهاج سياسة ديمقراطية.. تلك هى نوايا الرئيس، وذلك ما فعله بالضبط عندما دعا أقطاب المعارضة للحوار فى بداية نوفمبر.. اجتمع بهم واحدا واحدا ولم تنته هذه الاجتماعات إلى شىء لأنه كان يضمر وقتها إصدار إعلانه الدستورى الجائر.

بعد أن أصدر فى 21 نوفمبر هذا الإعلان الذى مهد لسلق الدستور فى الجمعية التأسيسية وقوبل برفض شعبى واسع، لم يكن هناك مفر من الدعوة إلى «حوار وطنى» ثان.. رفضت المعارضة وقتها الظهور فى الصورة الكاذبة، فاقتصر «الحوار» على العشيرة والمريدين، وانتهى على النحو الذى انتواه الرئيس باستبدال الإعلان بإعلان آخر فتح الباب أمام إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور.

أجرى الاستفتاء الذى صدّق على الدستور بنسبة رفض مفاجئة، فما كان من الرئيس إلاّ أن لجأ إلى نفس الحيلة، الدعوة إلى «الحوار الوطنى» الثالث، حتى يكتمل الديكور الديمقراطى، وينعقد مجلس الشورى بتركيبته الجديدة القديمة، العشيرة والمريدين، ويصدر ما شاء من قوانين.

تخطئ المعارضة إن شاركت فى الحوار هذه المرة بلا شروط واضحة بعد أن لدغت من الجحر نفسه من قبل، المسرحية هى هى ذاتها «علشان الصورة تطلع حلوة»، فى حين أن الواقع هذه المرة شديد المرارة.. يكفى تقرير البنك المركزى الذى صدر بعد ساعات من خطاب الرئيس ينذر بأن الاحتياطى النقدى أصبح عند الحد الأدنى الحرج لسداد الديون وتلبية احتياجات المواطنين من السلع المستوردة، وتصريح وزير التعاون الدولى فى اليوم ذاته بأن «معدلات الفقر والبطالة زادت إلى حد كبير».. الضغوط الاقتصادية هذه قبل أى شىء آخر هى التى أملت على الرئيس أن يوجه الدعوة إلى حواره الوطنى الثالث خلال شهرين اثنين.. لو كانت المعارضة تواجه خصما شريفا لكان عليها فى هذه الظروف العصيبة أن تمد يدها له لإنقاذ البلاد من الضياع.. لكن الكل يعلم أن هدف الرئيس هو الصورة الديمقراطية والواقع الاستبدادى.. نجلس معا ونتناقش فيما تريدون، لكنى أنفذ ما أريد.

انتبه الرئيس فى اللحظة الاخيرة إلى أن دعوته إلى «الحوار» لا تستقيم فى الوقت الذى يحقق فيه النائب العام مع أقطاب المعارضة بتهمة قلب نظام الحكم، وربما أيضا بتهمة أخرى مستوحاة من أفلام الإثارة الأمريكية التى يبدو أن الرئيس أدمن على مشاهدتها، فحواها أن المعارضة تتآمر لتهريب الرئيس إلى قطر.. فى الليلة السابقة لخطاب الرئيس فى الشورى ضغط الرئيس على الزر، أو على الأصح ضغط المقطم على الزر، فإذا بالمحامى الذى قدم البلاغ يسحب بلاغه، وإذا بمعظم ببغاوات الجماعة يصابون بالخرس، فى حين انطلق بعضهم يردد أسطوانات مناقضة تشيد بالمعارضين وبالالتحام الوطنى، مستخدمة تعبيرات الرئيس الركيكة التى تتغنى بالحب والأحضان.

مرة أخرى هذه خدعة غير محبوكة شأنها شأن سابقاتها.. تهمة قلب نظام الحكم لم يوجهها المحامى وحده.. الأخطر أن أول من وجهها هو الرئيس ذاته فى خطابه فى الاتحادية دون أن يقدم الدليل حتى الآن.. على الرئيس أن يسحب أولا هذا الاتهام فى خطاب موجه إلى الشعب.. لكن هذا لا يكفى لتبديد الشكوك فى الحوار.. عليه أيضا أن يحدثنا – ما دام هو الذى سيرعى هذا الحوار كما قال – عن تصوره لجدول أعماله، وما إذا كان سيتضمن آلية للتشاور فى اتخاذ القرارات المصيرية.. على الرئيس أيضا أن يكشف للأمة كلها لا عن نواياه وإنما عن الخطوات العملية التى يقترحها لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتأكيد مبدأ المواطنة وتمكين المرأة واستقلال القضاء وكفالة الحريات، خاصة حرية الصحافة والإعلام.. عندئذ فقط يمكن للمعارضة أن تقبل الحوار وتجلس إلى الرئيس.

حديث الرئيس عن حوار وطنى جديد أشعل سوق المبادرات.. هناك الآن فى الشارع السياسى أكثر من مبادرة، يلفت النظر بينها اثنتان، مبادرة طارق الزمر ومبادرة عمرو موسى.. أهمية مبادرة الزمر لا تأتى فقط من كونها قادمة من الجماعة الإسلامية، ولكن من أنها تحدد جدول أعمال مقترحاً للحوار، يشمل بنودا عديدة من بينها العنف السياسى والعدالة الاجتماعية والسياسة الاقتصادية واستقلال القضاء، أما مبادرة موسى فهى تطرح اقتراحات عملية منها تشكيل حكومة طوارئ ائتلافية برئاسة الرئيس لمدة عام، تتوقف خلاله الإضرابات ويعاد تشغيل المصانع المتوقفة، ولا تصدر فيه قرارات سيادية إلاّ بموافقة الحكومة، وتؤجل الانتخابات النيابية 6 أشهر على الأقل، وتعلن على الفور تهدئة سياسية مع جبهة الإنقاذ الوطنى.

تعدد المبادرات سلاح ذو حدين، إذ إنه قد يفتح بابا أمام الحوار بالفعل وقد يفضى إلى انقسام داخل التيار الإسلامى أو انقسام داخل صفوف المعارضة.. جبهة الإنقاذ تناقش الآن مبادرة موسى، وربما تحسن صنعا إذا ما احتفظت بها حتى لو كانت متفقة معها.. كى يكون هناك أمل فى أن تنجح المبادرة، ويجب عندئذ أن تأتى إما من جهة مستقلة وسطية وهذا ما يتعذر فى جو الاستقطاب الذى تشك فيه كل الأطراف فى مثل هذه الجهة، وإما أن تأتى من الرئاسة ذاتها.. الرئاسة هى التى بيدها السلطة وهى صاحبة المسؤولية الأولى.. أما أن تبادر الجبهة بعرض مقترحاتها فقد يفهم ذلك خطأ بين جماهير المعارضين، وقد يفهم خطأ فى دوائر السلطة.

الشراكة فى الحكم كانت على وجه التحديد السبب فى رفض جماعة الإخوان لمبادرة موسى بقيام حكومة ائتلافية، رغم أن البعض كان يأمل قبول الإخوان مشاركة الاخرين فى تحمل عبء الحكم الثقيل.. لكنهم ما داموا يرفضون فلتحمل الجماعة إذن العبء الذى زاد ثقلا بتخبطها فى الشهور الستة الأخيرة.. ليشكلوا حكومتهم صريحة، وليثبتوا للشعب أنهم جديرون بالحكم، قادرون وحدهم على مواجهة التحديات الجسام.. أما إذا وقع المستحيل وبادر الرئيس نفسه بعرض المشاركة فالواجب على المعارضة عندئذ ألا تهرب من مسؤوليتها.. عليها أن تقبل الحوار شريطة أن تكون الأهداف وآليات العمل واضحة، معلنة بشفافية تامة أمام الشعب.

عندما يتطرق بنا الحديث إلى الشفافية وإلى مصارحة الشعب لا أملك إلاّ أن أتذكر يوم 22 يونيو الماضى، بعد أن انتهت الانتخابات الرئاسية وقبل أن تعلن النتيجة، عندما وقف عدد من الرموز الوطنية إلى جانب الدكتور مرسى فى «فيرمونت» وهو يعاهد الشعب – إذا ما تولى الرئاسة – على إقامة دولة ديمقراطية مدنية حديثة، ويعدد العهود التى سيـفى بهـا لقيام هذه الدولة.. أتذكر وأتحسر.. ولا تغيب عن بالى الحكمة التى تجاهلتها مرة ودفعت الثمن: «الإخوان ليس لهم عهد».

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.