لا شك أن الإنسان السوي العاقل حين يفحص المصادر الإسلامية التي تناولت موضوع الأندلس.. سيجد اختلالات رهيبة.. ليس فقط في مدى توافقها مع بعضها البعض أو كمية النزاهة التي التزم بها المؤلفون.. بل يصل الأمر إلى أن هذه الروايات تترفع عن الواقع لكي تلج عالما ميتافيزيقيا خياليا.. يقوم فيه القادة قبل خوض الحرب بإلقاء خُطب بلغات لا تستوعبها جيوشهم.. ويُدمرون فرصة الإنسحاب التكتيكي بأيديهم.. دون أن ننسى أن جميع الشخصيات في ذلك العالم تملك نسبا عربيا دون أدنى دليل!
لكن هذه المصادر العربو-اسلامية لا يقع على مؤلفيها اللوم.. لأنهم وإن كان بعض الكسل وإهمال تقصي الحقائق قد طغى عليهم.. فيمكن أن نعذرهم.. لأنه وفي تلك الأزمنة كانت تلك.. هي المناهج الشائعة في التأريخ.. وسيكون علينا الإنتظار لزمن طويل قبل ظهور تأليف باللغة العربية يحترم البحث العلمي.. على يد ابن خلدون.. لكن اللوم يقع على الجحافل المتحمسة التي تمتطي هذه الروايات وتوظفها بغباء إما لتنسب طارق بن زياد إليها.. أو لتدنيس صورته.. تحت شعار “إما أن تشاركني تاريخك و إلا فالتزوير و التشويه”..
نعود هنا لطرح موضوع شخصية طارق بن زياد وتبيان حقيقة انتسابه وكذلك من أجل الحسم في مرتبته الإجتماعية.. فهل كان واليا؟ قائدا عسكريا؟ أم مجرد عبد؟
وهنا سنعتمد على أحد أوسع المؤلفات التي اختصت بتاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية.. الحديث هنا عن السجل القوطي لإزيدور المزعوم.. هو سجل بلسان لاتيني بخط قوطي-غربي.. يروي تاريخ إسبانيا منذ النشأة والسيطرة الرومانية وصولا لغزو طارق بن زياد…
وهو ليس من تأليف إزيدور الإشبيلي كما يوحي إسمه.. بل إن طريقة الكتابة وظهور ترجمات حرفية بصيغة عربية لأسماء الأعلام و الطوبونوميا.. يبين أن هذا السجل هو ترجمة لاتينية عن أصل عربي قام مؤلف مجهول بتأليفه اعتمادا على تجميع عدة مؤلفات لاتينية منها: سجل القديس جيروم.. كتب التاريخ السبعة لأوروسيوس.. التاريخ القوطي لإزيدور.. السجلات المستعربة لسنة 754 وكذلك كوسموغرافيا يوليوس هونوريوس…
يقع السجل في مخطوطة أصلية واحدة محفوظة في المكتبة الوطنية الفرنسية.. وقد قام باستردادها في القرن 16م الأكاديمي بيير بيثو.. وأحضرها إلى باريس.. عموما تم العثور عليها في جنوب فرنسا.. ويعتقد أن كتابتها تعود بين القرنين 10و12.. ويعود الفضل لثيودور مومسن في تحقيقها وإعادة نسخها سنة 1894م…
يروي هذا السجل أحداث غزو الأندلس في الفقرات الأخيرة ويعطينا صورة منطقية ومطابقة بشكل مذهل للمنمنمة القوطية المؤرخة بالقرن 14م.. والتي سبق أن خصصنا لها مقالا كاملا.. ورأينا كيف قدمت لنا طارق كواحد من كبار الشخصيات وذو مرتبة اجتماعية تصل إلى “ملك” لتساويه برودريغو على العرش.. كما أنها يحتوي على إشارة للأصل الإثني المغربي المحلي لطارق بن زياد…
ثم ننتقل الآن إلى إيراد المقطع المنشود:
“عندما وصلوا، أخبرها كيتيكو كيف جلبت نفسها وكذا الفتاة( ابنة يوليان) لنفسه بسبب الخديعة “…وهكذا جمع يوليان كل ثرواته من الذهب والفضة والملابس ، وعبر مسرعا إلى القلعة حيث الملك طارق وقال:
” هل تريد دخول إسبانيا؟ سأرشدك، لأني أنا الذي أملك مفاتيح البر والبحر ويمكنني إرشادك جيدًا “… فقال طارق: “وكيف تريد مني أن أضع فيك الثقة، وأنا أعرف أنك مسيحي بينما أنا من المور؟ “.. فرد يوليان ” يمكنك أن تثق بي ، هذا لأنني سأترك زوجتي وأولادي وثرواتي التي لا حصر لها تحت تصرفك “”..
“وبعد قبول الضمان، جمع طارق عددًاهائلاً من الجنود ، قادمًا مع جوليان إلى جزيرة طريف، بين مالقة ولبتيس، وتسلق جبلًا يُدعى حتى يومنا هذا جبل طارق ، ووصل هناك إلى هيسباليس بجيشه وأطبقوا عليها حصارا ثم استولوا عليها…””
لا نعتقد أن هذا المقطع يحتاج لشرح أكثر لأنه بسيط.. لكن تجدر الإشارة إلى أن كيتيكو هنا هو ويتيزا/فيتيزا وهو المعروف باسم غيطشة.. وهو أحد ملوك القوط الغربيين.. أما لبتيس المعنية فهي ليست لبدة في ليبيا.. بل موقع غير معروف في الضفة الإيبيرية من مضيق جبل طارق..
أما بالنسبة للسياق فيبدو أن طارق بن زياد قد كان يخشى أن تكون دعوة يوليان مجرد فخ نصبه القوط.. لذلك سارع لطلب ضمانات من يوليان.. بعد أن طلب منه هذا الأخير مساعدته في استعادة ابنته مقابل مد يد العون في عملية غزو إسبانيا.. كما يضيف هذا السجل أن الإسم الأصلي لإبنة يوليان هو أولبا..
من الواضح أيضا أن مرتبة طارق الإجتماعية كانت عالية ويظهر هذا من إعطائه لقب_ملك.. أما بخصوص انتمائه.. فمن الواضح أن طارق ينسب نفسه للمور.. ومن الجدير بالذكر أن كلمة “المور” في هذا النص تعني بالضبط سكان شمال غرب إفريقيا (المغرب).. وليس من الممكن أبدا أنها تستعمل للدلالة على الشخص المسلم.. لأن القوط في هذه الزمن لم يعرفوا المسلمين بعد.. كما أنها لا تشمل سكان شمال إفريقيا.. لأن المؤلف يميز بكل وضوح بين مغربي- #Marrochinas وأفريقي- #Affricanas…
وهكذا نصيب كل الفدلكات والروايات المضللة وأتباعها ومن يسير في فلكها.. وحتى المزايدين على كلمة المور.. وأحقية كلمة Maroc التاريخية… في مقتل.. والقادم أحلى!